سورة البقرة - تفسير روائع البيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
[19] خطبة المرأة واستحقاق المهر:
التحليل اللفظي:
{عَرَّضْتُمْ}: التعريض: الإيماء والتلويح من غير كشفٍ أو إظهار، وهو أن تفهم المخاطب بما تريد بضرب من الإشارة بدون تصريح، وهو مأخوذ من عرْض الشيء أي جانبه.
قال في (اللسان): وعرّض بالشيء: لم يبيّنه، والتعريض خلاف التصريح، والمعاريض: التورية بالشيء عن الشيء وفي الحديث: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب» والتعريضُ في خِطْبة المرأة: أن يتكلم بكلام يشبه خطبتها ولا يصرّح به كأن يقول: إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير، كما يقول المحتاج للمعونة: جئت لأسلّم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا:
وحسبك بالتسليم مني تقاضينا ***
{خِطْبَةِ النسآء}: الخطبة بكسر الخاء طلب النكاح، وبالضم معناها: ما يوعظ به من الكلام كخطبة الجمعة، وفي الحديث: «لا يخِطبن أحدكم على خِطْبة أخيه».
{أَكْنَنتُمْ}: سترتم وأضمرتم، والإكنان: السرّ والخفاء.
قال ابن قتيبة: أكننتُ الشيء: إذا سترته، وكنتُه: إذا صُنته، ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49].
{لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}: المراد بالسر هنا: النكاح ذكره الزجاج وأنشد:
ويحرم سرّ جارتهم عليهم *** ويأكل جارُهم أنف القصاع
قال ابن قتيبة: استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سراً بين الزوجين.
والمعنى: لا تواعدوهن بالزواج وهنّ في حالة العدة إلا تلميحاً.
{عُقْدَةَ النكاح}: العُقدة من العقد وهو الشدُ، وفي المثل: (يا عاقدُ اذكر حلاً).
قال الراغب: العُقدة: اسم لما يعقد من نكاح، أو يمين، أو غيرهما.
وقال الزجاج معناه: لا تعزموا على عقدة النكاح، حذفت (على) استخافاً كما قالوا: ضرب زيد الظهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن.
{أَجَلَهُ}: أي نهايته، والمراد بالكتاب: الفرض الذي فرضه الله على المعتدة من المكث في العدة.
ومعنى قوله: {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ}: أي حتى تنقضي العدة.
{فاحذروه}: أي اتقوا عقابه ولا تخالفوا أمره، وفيه معنى التهديد والوعيد.
{حَلِيمٌ}: يمهل العقوبة فلا يعجّل بها، ومن سنته تعالى أنه يمهل ولا يهمل.
{الموسع}: الذي يكون في سعة لغناه، يقال أوسع الرجل: إذا كثر ماله.
{المقتر}: الذي يكون في ضيق لفقره، يقال: أقتر الرجل: إذا افتقر، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيّق عليهم في النفقة.
{تَمَسُّوهُنَّ}: المسّ: إمساك الشيء باليد، ومثلُه المِساسُ والمسيسُ.
قال الراغب: المسُ كاللمس ويقال لما يكون إدراكه بحاسة اللمس، وكنيّ به عن الجماع فقيل: مسّها وماسّها قال تعالى: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47].
{فَرِيضَةً}: الفريضة في الأصل ما فرضه الله على العباد، والمراد بها هنا المهر لأنه مفروض بأمر الله.
{يَعْفُونَ}: معناه: يتركن ويصفحن والمراد أن تسقط المرأة حقها من المهر.
المعنى الإجمالي: بيّن تعالى حكم خطبة النساء المعتدات بعد وفاة أزواجهن فقال جل ثناؤه ما معناه: لا ضيق ولا حرج عليكم أيها الرجال، في إبداء الرغبة بالتزوج بالنساء المعتدات، بطريق التلميح لا التصريح، فإن الله تعالى يعلم ما أخفيتموه في أنفسكم من الميل نحوهن، والرغبة في الزواج بهن، ولا يؤاخذكم على ذلك، ولكن لا يصح أن تجهروا بهذه الرغبة وهنّ في حالة العدة، إلاّ بطريق التعريض وبالمعروف، بشرط ألاّ يكون هناك فحش أو إفحاش في الكلام، ولا تعزموا النية على عقد النكاح حتى تنتهي العدة، واعلموا أن الله مطلع على أسراركم وضمائركم ومحاسبكم عليه.
ثم ذكر تعالى حكم المطلّقة قبل الفرض والمسيس، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول، لئلا يتوهم أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور، وأمر بدفع المتعة لهن تطيباً لخاطرهن، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر، وجعله نوعاً من الإحسان لجبر وحشة الطلاق، وأمّا إذا كان الطلاق قبل المساس وقد ذُكر المهر، فللمطلّقة نصف المسمّى المفروض، إلا إذا أسقطت حقها، أو دفع الزوج لها كامل المهر، أو أسقط ولي أمرها الحق إذا كانت صغيرة.
ثم ختم تعالى الآية بالتذكير بعدم نسيان المودة، والإحسان، والجميل بين الزوجين، فإذا كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة، فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى.
سبب النزول:
قال الخازن في تفسيره: نزلت هذه الآية: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} في رجل من الأنصار، تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقاً، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمتعها ولو بقلنسوتك».
وجوه القراءات:
1- قرأ الجمهور: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وقرأ حمزة والكسائي: {تُماسُوهنّ} بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب، وهو من باب المفاعلة كالمباشرة والمجامعة.
2- قرأ الجمهور: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} بالرفع، وقرأ ابن كثير ونافع: {قدْرُه} بسكون الدال.
3- قرأ الجمهور: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} وقرئ: {وأن يَعْفوا} بالياء.
وجوه الإعراب:
أولاً- قوله تعالى: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} لكنْ حرفُ استدراك، والمستدرك محذوف تقديره علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهن ولكن لا توعدوهن و(سرّاً) مفعول به لأنه بمعنى النكاح، أي لا تواعدوهنّ نكاحاً، ويصح أن يعرب على أنه حال تقديره مستخفين، والمفعول محذوف أي لا تواعدوهن النكاح سراً.
ثانياً- قوله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} منصوب بنزع الخافض أي على عقدة النكاح.
ثالثاً- قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} ما: مصدرية والزمان معها محذوف تقديره: في من ترك مستهنّ، وقيل: (ما) شرطية أي (إن لم تمسوهن).
رابعاً- قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فالواجب نصف ما فرضتم أو فعليكم نصف ما فرضتم، و(ما) اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: أباح القرآن (التعريض) في خطبة المعتدة دون التصريح، ومن صور التعريض أن يقول: إنك لجميلة، أو صالحة، أو نافقة، أو يذكر الشخص مآثره أمامها.
روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته (سُكينة بنت حنظلة) قالت: دخل عليّ (أبو جعفر) محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: أنا من علمتِ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقّ جدي عليّ، وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنتَ يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلتُ؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة حين توفي عنها زوجها (أبو سلمة) فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده حتى أثَّر الحصير في يده فما كانت تلك خِطبة.
اللطيفة الثانية: قال الزمخشري: السرّ في الآية: {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه ممّا يُسر، قال الأعشى:
ولا تقربَنْ من جارةٍ إنّ سرّها *** عليك حرامٌ فانكحنْ أو تأبدا
ثمّ عبر فيه عن النكاح الذي هو العقد، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح.
اللطيفة الثالثة: ذكر العزم في الآية: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح في العدة، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهي عنه كان النهي عن الفعل أولى.
اللطيفة الرابعة: عبّر تعالى بالمساس عن الجماع، وهو من الكنايات اللطيفة التي استعملها القرآن الكريم.
قال أبو مسلم: وإنما كنّى تعالى بقوله: {تَمَسُّوهُنَّ} عن المجامعة، تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به.
اللطيفة الخامسة: الخطاب في قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} وفي قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} للرجال والنساء جميعاً ورد بطريق التغليب.
قال الفخر: إذا اجتمع الرجال والنساء في الخطاب كانت الغلبة للذكور، لأن الذكورة أصل، والتأنيث فرع، ألا ترى أنك تقول: قائم ثم تريد التأنيث فتقول: قائمة.
اللطيفة السادسة: الحكمة في إيجاد المتعة للمطلقة جبر إيحاش الطلاق، والتخفيف عن نفسها بالمواساة بالمال.
قال ابن عباس: إن كان موسراً متّعها بخادم، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب.
اللطيفة السابعة: روي أن (الحسن بن علي) متّع بعشرة آلاف فقالت المرأة: متاعٌ قليلٌ من حبيب مفارق.
وسبب طلاقه إيّاها ما روي أنّ (عائشة الخثعمية) كانت عند الحسن بن علي بن أبي طالب، فلمّا أصيب عليّ وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتَهْنكَ الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال: يُقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ إذهبي فأنت طالق ثلاثاً، فتلفعت بجلبابها، وقعدت حتى انقضت عدتها، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
فلما أخبره الرسول بكى وقال: لولا أني أبنتُ الطلاق لها لراجعتها.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: ما هو حكم خطبة النساء؟
النساء في حكم (الخِطْبة) على ثلاثة أقسام:
أحدها: التي تجوز خطبتها (تعريضاً وتصريحاً) وهي التي ليست في عصمة أحد من الأزواج، وليست في العدة، لأنه لمّا جاز نكاحها جازت خطبتها.
الثاني: التي لا تجوز خطبتها (لا تصريحاً، ولا تعرضاً) وهي التي في عصمة الزوجية، فإنّ خطبتها وهي في عصمة آخر إفساد للعلاقة الزوجية وهو حرام، وكذلك حكم المطلّقة رجعياً فإنها في حكم المنكوحة.
الثالث: التي تجوز خطبتها (تعريضاً) لا (تصريحاً) وهي المعتدة في الوفاة، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} ومثلها المعتدة البائن المطلّقة ثلاثاً فيجوز التعريض لها دون التصريح.
والدليل على حرمة التصريح ما قاله الشافعي رحمه الله: لمّا خُصّص التعريض بعدم الجناح، وجب أن يكون التصريح بخلافه وهذا الاستدلال دلّ عليه مفهوم المخالفة.
الحكم الثاني: هل النكاح في العدة صحيح أم فاسد؟
حرّم الله النكاح في العدة، وأوجب التربص على الزوجة، سواءً كان ذلك في عدة الطلاق، أو في عدة الوفاة، وقد دلت الآية وهي قوله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} على تحريم العقد على المعتدة، واتفق العلماء على أن العقد فاسد ويجب فسخه لنهي الله عنه. وإذا عقد عليها وبنى بها فُسخ النكاح، وحرمت على التأبيد عند (مالك وأحمد) فلا يحل نكاحها أبداً عندهما لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك، ولأنه استحلّ ما لا يحل فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه من الميراث.
وقال أبو حنيفة والشافعي: يُفسخ النكاح، فإذا خرجت من العدة كان العاقد خاطباً من الخطاب، ولم يتأبد التحريم، لأنّ الأصل أنها لا تحرم إلا بدليل من كتابٍ، أو سنةٍ، أو إجماع، وليس في المسألة شيء من هذا، وقالوا: إنّ الزنى أعظم من النكاح في العدة، فإذا كان الزنى لا يحرمها عليه تحريماً مؤبداً، فالوطء بشبهة أحرى بعدم التحريم، وما نقل عن عمر فقد ثبت رجوعه عنه.
قضاء عمر رضي الله عنه في الحادثة:
روى ابن المبارك بسنده عن مسروق أنه قال: بلغ عمر أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرّق بينهما وعاقبهما، وقال: لا ينكحْها أبداً، وجعل الصداق في بيت المال، وفشا ذلك بين الناس فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال: يرحم الله أمير المؤمنين! ما بال الصداق وبيت المال! إنما جهلا فينبغي أن يردهما السنة. قيل: فما تقول أنت فيهما؟ قال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثم يخطبها إن شاء.
فبلغ ذلك عمر فقال: يا أيها الناس ردّوا الجهالات إلى السنة.
الحكم الثالث: ما هو حكم المطلقة قبل الدخول؟
وضحّت الآيات الكريمة أحكام المطلقات، وذكرت أنواعهنّ وهنّ كالتالي:
أولاً: مطّلقة مدخول لها، مسمّى لها المهر.
ثانياً: مطلّقة غير مدخول بها، ولا مسمّى لها المهر.
ثالثاً: مطلّقة غير مدخول بها، وقد فرض لها المهر.
رابعاً: مطلّقة مدخول بها، وغير مفروض لها المهر.
فالأولى ذكر الله تعالى حكمها قبل هذه الآية، عدّتُها ثلاثة قروء، ولا يُسترد منها شيء من المهر {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229].
والثانية: ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية، ليس لها مهرٌ، ولها المتعة بالمعروف لقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ...} [البقرة: 236] الآية كما أن هذه ليس عليها عدة باتفاق لقوله تالى في سورة الأحزاب [49] {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} > والثالثة: ذكرها الله تعالى بعد هذه الآية، لها نصف المهر ولا عدة عليها أيضاً لقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}.
والرابعة: ذكرها الله تعالى في سورة النساء [24] بقوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] فهذه يجب لها مهر المثل. قال الرازي ويدل عليه أيضاً القياس الجلي، فإن الأمة مجمعة على أن الموطوءة بشبهة لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذه الحكم.
الحكم الرابع: هل المتعة واجبة لكل مطلّقة؟
دل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} على وجوب المتعة للمطلّقة قبل المسيس وقبل الفرض، وقد اختلف الفقهاء هل المتعة واجبة لكل مطلقة؟
فذهب (الحسن البصري) إلى أنها واجبة لكل واجبة لكل مطلّقة للعموم في قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 241].
وقال مالك: إنها مستحبة للجميع وليست واجبة لقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 241] و{حَقّاً عَلَى المحسنين} ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين.
وذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) إلى أنها واجبة للمطلّقة التي لم يفرض لها مهر، وأمّا التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة وهذا مروي عن (ابن عمر) و(ابن عباس) و(علي) وغيرهم، ولعله يكون الأرجح جمعاً بين الأدلة والله أعلم.
الحكم الخامس: ما معنى المتعة وما هو مقدارها؟
المتعة: ما يدفعه الزوج من مال أو كسوة أو متاع لزوجته المطلّقة، عوناً لها وإكراماً، ودفعاً لوحشة الطلاق الذي وقع عليها، وتقديرُها مفوض إلى الاجتهاد.
قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها.
وقال الشافعي: المستحب على الموسم خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً، وعلى المقتر مقنعة.
وقال أبو حنيفة: أقلها درع وخمار وملحفة، ولا تزاد على نصف المهر.
وقال أحمد: هي درع وخمار بقدر ما تجزئ فيه الصلاة، ونقل عنه أنه قال: هي بقدر يسار الزوج وإعساره {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} وهي مقدرة باجتهاد الحاكم، ولعل هذا الرأي الأخير أرجح والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
1- جواز التعريض في خطبة المعتدة من الوفاة ومن الطلاق البائن.
2- حرمة عقد النكاح على المعتدّة في حالة العدة وفساد هذا العقد.
3- المتعة واجبة لكل مطلّقة لم يذكر لها مهر، ومستحبة لغيرها من المطلقات.
4- إباحة تطليق المرأة قبل المسيس إذا كانت ثمة ضرورةٌ ملحة.
5- المطلّقة قبل الدخول لها نصف المهر إذا كان المهر مذكوراً.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
شرع الباري جل وعلا المتعة للمطلّقة، وجعلها على قدر حال الرجل يساراً وإعساراً، وهذه (المتعة) واجبة للمطلّقة قبل الدخول، التي لم يُسمّ مهر، ومستحبة لسائر المطلقات. والحكمة في شرعها أنّ في الطلاق قبل الدخول امتهاناً للمرأة وسوء سمعة لها، وفيه إيهامٌ للناس بأن الزوج ما طلّقها إلاّ وقد رابه شيء منها في سلوكها وأخلاقها، فإذا هو متّعها متاعاً حسناً تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبَله، لا من قِبَلها، ولا علة فيها، فتحفظ بما كان لها من صيتٍ وشهرة طيبة، ويتسامع الناس فيقولون: إن فلاناً أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر، وهو معترف بفضلها مقر بجميلها، فيكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها، ويكون أيضاً كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق.
وقد أمرنا الإسلام أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة، وأن نصون كرامة الناس عن القيل والقال، ولهذا أمر حتى في حالة الطلاق الذي يسبّب في الغالب النزاع والبغضاء بأن لا ننسى الجميل والمودة والإحسان {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فإن الروابط في النكاح والمصاهرة روابط مقدسة، فينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلّق، ألاّ ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، فأين نحن المسلمين من هدي هذا الكتاب المبين؟! وأين نحن من إرشاداته الحكيمة، وآدابه الفاضلة؟!


{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
[20] الربا جريمة اجتماعية خطيرة:
{الرباوا}: الربا في اللغة: الزيادة مطلقاً، يقال ربا الشيء يربو: إذا زاد، ومنه قوله تعالى: {اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي زادت، وفي الحديث: «إلاّ رَبَا من تحتها» أي زاد الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، وأربى الرجل: إذا تعامل بالربا.
وفي الشرع: زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل.
{يَتَخَبَّطُهُ}: التخبط معناه الضرب على غير استواء كخبط البعير الأرض بيده، ويقال للذي يتصرف في أمرٍ ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء، وتخبّطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون، وتسمّى إصابة الشيطان خبطة.
{المس}: الجنون يقال: مُسّ الرجل فهو ممسوس وبه مسٌ، وأصله من المسّ باليد، كأن الشيطان يمسّ الإنسان فيحصل له الجنون.
قال الراغب: وكنّي بالمس عن الجنون، وفي قوله: {يتخبطه الشيطان من المس} والمسّ يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى.
{مَوْعِظَةٌ}: الموعظة: بمعنى الوعظ وهو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.
{سَلَفَ}: أي مضى وتقدم، والمعنى: من انتهى عن التعامل بالربى فإن الله تعالى يعفو ويصفح عمّا مضى من ذنبه قبل نزول آية التحريم.
{يَمْحَقُ}: المحق: النقص والذهاب، ومنه المحاق في الهلال يقال: محقه إذا أنقصه وأذهب بركته والمراد أن الله أوعد المرابي بإذهاب ما له وإهلاكه وفي الحديث الشريف: «إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ».
{وَيُرْبِي الصدقات}: أي يزيدها وينميها ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة.
{أَثِيمٍ}: أي كثير الإثم وهو المتمادي في ارتكاب المعاصي، المصر على الذنوب.
{فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ}: أي أيقنوا بحربٍ من الله ورسوله، وهذا وعيد لمن لم يذر الربى.
{ذُو عُسْرَةٍ}: العُسرة الفقر والضيق يقال: أعسر الرجل إذا افتقر.
{فَنَظِرَةٌ}: أي فواجب تأخيره وانتظاره يقال: أنظره إذا أمهله وأخره.
{مَيْسَرَةٍ}: أي غنى ويسار، والمعنى: إذا كان المستدين معسراً فأخروه إلى وقت السعة والغنى ولا تأخذوا منه إلا رأس المال.
المعنى الإجمالي:
يخبر الولي جل وعلا المرابين، الذي يتعاملون بالربا فيمتصون دماء الناس، بأنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، إلاّ كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، يتعثر ويقع ولا يستطيع أن يمشي سوياً، لأن به مساً من الشيطان، ذلك التخبط والتعثر بسبب أنهم استحلوا الربا الذي حرّمه الله، فقالوا: الربا مثل البيع فلماذا يكون حراماً؟ وقد ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة السقيمة بأن البيع تبادل منافع وقد أحلّه الله، والربا زيادة مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه وقد حرمه الله، فكيف يتساويان؟!
ثم أخبر تعالى بأن من جاءته الموعظة والذكرى، فانتهى عمّا كان قبل التحريم، فإن الله عز وجل يعفو ويغفر له، ولا يؤاخذه عمّا أخذ من الربا، وأمّا من تعامل بالربا بعد نهي الله عنه فإنه يستوجب العقوبة الشديدة بالخلود في نار جهنم لاستحاله ما حرمه الله.
وقد أوعد الله المرابي بمحق ماله، إمّا بإذهابه بالكلية، أو بحرمانه بركة ماله، «فالربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ» كما بيّن صلوات الله وسلامه عليه، فلا بدّ أن يزهقه الله ويمحقه لأنه خبيث {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} [المائدة: 100] وأمّا المتصدّق فالله يبارك له في ماله وينميّه، والله لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل. ثمّ جاء الوعيد والتهديد الشديد لمن تعامل بالربا، وخاصة إذا كان هذا الشخص من المؤمنين، فالربا والإيمان لا يجتمعان، ولهذا أعلن الله الحب على المرابين {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}.
فأي مسلم يسمع مثل هذا الوعيد ثم يتعامل بالربا؟! اللهم احفظنا من هذه الجريمة الشنيعة، وطهّرنا من أكل السحت والتعامل بالربا إنك سميع مجيب الدعاء اللهم آمين.
سبب النزول:
1- كان العباس وخالد بن الوليد شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى ناسٍ من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس، وكل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب».
وجوه القراءات:
1- قرأ الجمهور: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} وقرأ حمزة وعاصم (فآذنوا بحرب) بالمد.
قال الزجاج: من قرأ: {فَأْذَنُواْ} بالقصر، فالمعنى: أيقنوا، ومن قرأ بالمد فمعناه أعلموا.
2- قرأ الجمهور: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} وروي عن عاصم بضم الأولى وفتح الثانية.
3- قرأ الجمهور: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} بتسكين السين، وضمها أبو جعفر (عُسُرة).
4- قرأ الجمهور: {يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} بضم التاء، وقرأ أبو عمرو بفتحها (تَرْجعون).
وجوه الإعراب:
أولاً: قوله تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ الرباوا} مبتدأ وجملة: {لاَ يَقُومُونَ} خبره، والكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره: إلاّ قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان.
ثانياً: قوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين فذروا.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} كان هنا تامة بمعنى إن حدث ذو عسرة.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: المراد بالأكل في الآية الكريمة مطلق الأخذ والتصرف، وعبّر به هنا {الذين يَأْكُلُونَ الرباوا} لأنه الغرض الأساسي من المال، وما عداه من سائر الوجوه فتبع، وقد شاع هذا الإطلاق يقال لمن تصرف في مال غيره بدون حق: أكله، وهضمه.
اللطيفة الثانية: تشبيه المرابين بالمصروعين، الذين يتخبطهم الشيطان، فيه لطيفة وهي أن الله عزّ وجل أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم، فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون وتلك سيماهم يوم القيامة يعرفون بها، قال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا يوم القيامة.
اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباوا} تشبيه لطيف يسمى (التشبيه المقلوب) وهو أعلى مراتب التشبيه حيث يصبح المشبّه مشبهاً به مثل قولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفه، على حدّ قول القائل:
فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدها *** سوى أنّ عظم الساق منك دقيق
ومقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتفق على حله، ولكنّه بلغ اعتقادهم في حل الربا، أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل، حتى شبّهوا به البيع، فتدبّره فإنه دقيق.
اللطيفة الرابعة: النكتة في الآية الكريمة: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} أنّ المرابي يطلب الربا زيادة المال، ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبيّن سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء، وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان، والزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} تنكير الحرب للتفخيم وقد زادها فخامة وهؤلاً، نسبتُها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته صلى الله عليه وسلم، أي أيقنوا بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره، كائن من عند الله ورسوله، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً، وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكل الربا.
قال ابن عباس: يقال الآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} صيغة كفّار (فعّال) وصيغة أثيم (فعيل) كلاهما من صيغ المبالغة معناهما كثير الكفر والإثم، وفي الآية تغليظ لأمر الربا، وإيذانٌ بأنه من فعل الكفّار لا من فعل المسلمين.
اللطيفة السابعة: رغّب الله تعالى في إنظار المستدين المعسر: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} وكذلك جاءت السنة المطهرة فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجلٌ يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنّا، فلقي الله فتجاوز عنه».
قال المهايمي: فإذا استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون، استوفى الله منه حقوقه بالتضييق، وإن سامحه فالله أولا بالمسامحة.
اللطيفة الثامنة: قال بعض العلماء: من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه، أكبَرَ جرمَهُ وإثمه، فقد ترتب عليه قيامهم في الحشر مخبلين، وتخليدهم في النار، ونبذهم بالكفر، والحرب من الله ورسوله، واللعنة الدائمة لهم، وكذلك الذم والبغض، وسقوط العدالة وزوال الأمانة، وحصول القسوة والغلظة، والدعاء عليه ممن ظلمه، وذلك سبب لزوال الخير والبركة، فما أقبح هذه المعصية، وأعظم جرمها، وأشنع عاقبتها؟!
اللطيفة التاسعة: ختمت آيات الربا بهذه الآية الكريمة: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وهي آخر آية نزلت من القرآن، وعاش بعدها النبي صلى الله عليه وسلم تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، وفي هذه الآية تذكير بالوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89] وبنزول هذه الآية انقطع الوحي، وكان ذلك آخر اتصال السماء بالأرض.
الأدوار التي مرّ بها تحريم الربا:
من المستحسن أن نذكر هنا الأدوارالتي مرّ بها تحريم الربا، حتى ندرك سر التشريع الإسلامي، في معالجته للأمراض الاجتماعية، فنم المعلوم أن التشريع الإسلامي سار (بسُنّة التدرج) في تقرير الأحكام.
ولقد مرّ تحريم الربا بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر، وذلك تمشياً مع قاعدة التدرج:
الدول الأول: نزل قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39] وهذه الآية الكريمة نزلت في مكة وهي- كما يظهر- ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للربا، وأن الربا ليس له ثواب عند الله فهي إذن (موعظة سلبية).
الدورالثاني: نزل قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} [النساء: 160-161] وهذه الآية مدنية، وهي درس قصه الله سبحانه علينا من سيرة اليهود الذي حرم عليهم الربا فأكلوه واستحقوا عليه اللعنة والغضب، وهو تحريم (بالتلويح) لا (بالتصريح) لأنه حكاية عن جرائم اليهود وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين. وهذا نظير (الدور الثاني) في تحريم الخمر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] الآية حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح.
الدور الثالث: نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130]. الآية وهذه الآية مدنية وفيها تحريم للربا صريح ولكنه تحريم (جزئي) لا (كلي) لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يسمى (الربا الفاحش) وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذرة العليا، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى، حيث كان الدَيْنُ فيه يتزايد حتى يصبح أضعافاً مضاعفة، يضعف عن سداده كاهل المستدين، الذي استدان لحاجته وضرورته وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة حيث كان التحريم جزئياً لا كلياً في أوقات الصلاة {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ...} [النساء: 43] الآية.
الدور الرابع: وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع، الذي لا يفرّق فيه القرآن بين قليل أو كثير، والذي تدل النصوص الكريمة على أنه قد ختم فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا، فقد نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ...} الآيات.
وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه حيث حرمت الخمر تحريماً قاطعاً جازماً في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
وبهذا البيان يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية بالسير بهم في طريق (التدرج).
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: ما هو الربا المحرّم في الشريعة الإسلامية؟
الربا الذي حرّمه الإسلام نوعان: (ربا النسيئة) و(ربا الفضل).
أما الأول (ربا النسيئة): فهو الذي كان معروفاً في الجاهلية وهو أن يقرضه قدراً معيناً من المال إلى زمن محدود كشهرٍ أو سنة مثلاً مع اشتراط الزيادة فيه نظير امتداد الأجل.
قال (ابن جرير الطبري) رحمه الله: إن الرجل في الجاهلية يكون له على الرجال مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه الدين أخّر عني ديْنَك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافاً مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه.
وهذا النوع من الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية، حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة أو عشرة في المائة ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد.
أما الثاني (ربا الفضل): فهو الذي وضحته السنّة النبوية المطهرة، وهو أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر، مثاله: أن يبيع كيلاً من القمح بكيلين من قمح آخر، أو رطلاً من العسل الشامي برطل ونصف من العسل الحجازي، وهكذا في جميع المكيلات والموزونات.
والقاعدة الفقهية في هذا النوع من التعامل هي أنه (إذا اتحد الجنسان حرم الزيادة والنّساء، وإذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء).
وتوضيحاً لهذه القاعدة الفقهية نقول: إذا أردنا مبادلة عين بعين كزيت بزيت، أو قمح بقمح، أو عنبٍ بعنب، أو تمر بتمر، حرمت الزيادة مطلقاً ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا، وإذا اختلفت الأجناس كقمح بشعير، أو زيت بتمر مثلاً جازت الزيادة فيه بشرط القبض لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء». وفي حديث آخر: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد». أي مقبوضاً وحالاً.
الحكم الثاني: هل يباح الربا القليل؟ وما المراد من قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130]؟
يذهب بعض ضعفاء الإيمان (من مسلمي هذا العصر) إلى أن الربا المحرم إنما هو الربا الفاحش، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة، ويقصد منه استغلال حاجة الناس، أما الربا القليل الذي لا يتجاوز نسبته اثنين أو ثلاثة في المائة فإنه غير محرم، ويحتجون على دعواهم الباطلة بأنّ الله تبارك وتعالى إنما حرم الربا إذا كان فاحشاً حيث قال تبارك وتعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] فالنهي إنما جاء مشروطاً ومقيداً وهو كونه مضاعفاً أضعافاً كثيرة، فإذا لم يكن كذلك، وكانت النسبة فيه يسيرة فلا وجه لتحريمه.
وللجواب على ذلك نقوله:
أولاً: إن قوله تعالى: {أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] ليس قيداً ولا شرطاً، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية، كما يتضح من سبب النزول، وللتشنيع عليهم بأنّ في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً، حيث كانوا يأخذون الربا مضاعفاً أضعافاً كثيرة.
ثانياً: إن المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله وكثيره، فهذا القول يعتبر خروجاً على الإجماع كما لا يخلو عن جهلٍ بأصول الشريعة الغراء، فإن قليل الربا يدعو إلى كثيره، فالإسلام حين يحرّم الشيء يحرّمه (كلياً) أخذاً بقاعدة (سدّ الذرائع) لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه، والربا كالخمر في الحرمة فهل يقول مسلم عاقل إن القليل من الخمر حلال؟
ثالثاً: نقول لهؤلاء الجهلة (من أنصاف المتعلمين): أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ؟ فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة، ولا تقرؤون قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباوا} وقوله تعالى: {اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا} وقوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} هل في هذه الآيات ما يقيد الربا بالقليل أو الكثير أم اللفظ مطلق؟ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر: «لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال هم سواء» فالربا محرم بجميع أنواعه بالنصوص القطعية، والقليل والكثير في الحرمة سواء. وصدق الله حيث يقول: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
1- الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة.
2- الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار.
3- القليل من الربا والكثير في الحرمة سواء.
4- على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه.
5- السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنما هو تقوى الله.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
اعتبرت الشريعة الإسلامية الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية، وشنّت عليه حرباً لا هوادة فيها، وأوعد القرآ الكريم المتعاملين به عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، ويكفي أن نعلم عظم هذه الجريمة النكراء من تصوير حالة المرابين بذلك التصوير الشنيع الذي صورهم به القرآن، صورة الشخص الذي به مسّ من الجن، فهو يتخبط ويهذي كالمجنون الذي أصيب في عقله وجسمه.
ولم يبلغ من تفظيع أمر من أمور الجاهلية- أراد الإسلام إبطاله- ما بلغ من تفظيع أمر الربا، ولا بلغ من التهديد في منكر من منكرات كما بلغ في شأن الربا، فالربا في نظر الإسلام جريمة الجرائم، وأساس المفاسد، وأصل الشرور والآثام، وهو الوجه الكالح الطالح الذي يقابل الصدقة والبر والإحسان.
الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل... والربا شحّ، وقذارة، ودنس، وجشع، وأثرة، وأنانية.
الصدقة نزولٌ عن المال بلا عوضً ولا ردّ، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه، جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لكدّه وعمله، ومن لحمه إن لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة على نفسه وأهله.
فلا عجب إذاً أن يعده الإسلام أعظم المنكرات والجرائم، الاجتماعية والدينية، وأن يعلن على المرابين الحرب {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} وذلك للأضرار الفادحة والمساوئ التي تترتب عليه، ويمكننا أن نجمل هنا بعض هذه الأضرار في فقرات:
أولاً: ضرر الربا من الناحية النفسية.
ثانياً: ضرر الربا من الناحية الاجتماعية.
ثالثاً: ضرر الربا من الناحية الاقتصادية.
أما ضرر الربا من الناحية النفسية: فإنه يولّد في الإنسان حب (الأثرة والأنانية) فلا يعرف إلا نفسه، ولا يهمه إلا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم روح التضحية والإيثار، وتنعدم معاني حبّ الخير للأفراد والجماعات، وتحلّ محلها حبّ الذات والأثرة والأنانية، وتتلاشى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان فيغدوا الإنسان (المرابي) وحشاً مفترساً لا يهمه من الحياة إلا جمع المال، وامتصاص دماء الناس، واستلاب ما في أيديهم، ويصبح ذئباً ضارياً في صورة إنسان وديع، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس ويحل محلها الجشع والطمع.
أما ضرر الربا من الناحية الاجتماعية: فإنه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان، والتعاون والإحسان في نفوس البشر، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء، ويدمّر قواعد المحبة والإخاء، ومن المقطوع به أن الشخص الذي لا تسكن قلبَه الشفقةُ والرحمةُ ولا يعرف معنى للأخوة الإنسانية سوف يعدم كل احترام أو عطفٍ من أبناء مجتمعة، وتكون النظرة إليه نظرة إزدراء واحتقار، وكفى (المرابي) مقتاً وهواناً أنه عدو لمجتمعه ولأبناء وطنه بل إنه عدوّ للإنسانية لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم.
أما ضرر الربا من الناحية الاقتصادية: فهو ظاهر كل الظهور لأنه يقسم الناس إلى طبقتين: طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية، والتمتع بعرق جبين الآخرين وطبقة معدمة تعيش على الفاقة والحاجة، والبؤس والحرمان، وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين، وقد ثبت أن (الربا) أعظم عامل من عوامل تضخم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات حيث كثرت المحن والفتن، وزادادت الثورات الداخلية وإنا لله وإنا إليه راجعون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7